سُورَةُ الإِخۡلَاصِ هي سورةمكية، من المفصل، آياتها 4، وترتيبها في المصحف 112، في الجزء الثلاثين، بدأت بفعل أمر﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١﴾، ونزلت بعد سورة الناس.[1] لها العديد من الفضائل، فقد ورد العديد من الأحاديث النبوية في فضل سورة الإخلاص، فمن فضلها أن قراءتها تعدل قراءة ثلث القرآن لقول النبي: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟»، كما أن بها صفة الرحمن، وقراءتها من أذكار النبي الدائمة، فكان يقرؤها إذا أوى إلى فراشه، ويقرؤها في صلاة الوتر، ويقرؤها دبر كل صلاة مكتوبة. وقد أمر النبي بقراءتها مع المعوذتين دبر كل صلاة، كما حث النبي على قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثًا في الصباح والمساء وأن قراءتهنّ تكفي المرء من كل شيء.
تتحدث السورة عن صفة الله تعالى، وإثبات وحدانية الله تعالى، وأنه الصمد الذي لا يقصد في الحوائج غيره، وعن تنزيهه عن سمات المحدثات فليس كمثله شيء وليس له مثيل ولا كفء، وإبطال أن يكون له ابن، وإبطال أن يكون المولود إلهًا مثل عيسى بن مريم.
وللسورة العديد من الأسماء التي جاءت في الآثار ومما أطلق عليها العلماء، وتسميتُها في المصاحفوكتب التفسير «سُورَةُ الإخلاص». ولا اختلافَ في القراءات العشر بين كلمات السورة، إلا في كلمة «كُفُوًا». وعدد آياتها أربع آيات، وخمس آيات حسب التعداد المكي والشامي، والاختلاف في اعتبار «لَمْ يَلِدْ» آية، «وَلَمْ يُولَدْ» آية، عدها المكي والشامي آية منفردة ولم يعدها الباقون.[2] أما عدد كلماتها فخمس عشرة كلمة. وحروفها المرسومة 47 حرفًا حسب الرسم العثماني.[3]
ولا اختلافَ في القراءات العشر للسورة، إلا في كلمة «كُفُوًا»، فقرأها حفص عن عاصم بإبدال الهمزة واوًا وصلًا ووقفًا وضم الفاء، وقرأها خلف -أي القارئ العاشر- ويعقوبوحمزة بإسكان الفاء مع الهمز «كُفْؤًا»، وقرأها بقية القراء بضم الفاء مع الهمز «كُفُؤًا».[4] وزعم هارون القَارِئ أنّ سليمان بن علي الهاشمي قَرأ «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفَاءً أَحَدٌ» والمعنى واحد.[5]
تعدادها
عدد آيات سورة الإخلاص أربع آيات، وخمس آيات حسب العدّ المكي والشامي، والاختلاف في اعتبار «لَمْ يَلِدْ» آية، «وَلَمْ يُولَدْ» آية، عدها المكي والشامي آية منفردة ولم يعدها الباقون.[2] أما عدد كلماتها فخمس عشرة كلمة. وحروفها المرسومة 47 حرفًا حسب الرسم العثماني. قال الخطيب الشربيني: «وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفًا».[3]
زمن النزول
هي سورة مكية في قول جمهور العلماء، بينما ذهب قتادةوالضحاكوالسديوأبو العالية والقرضي إلى أنها مدنية، ونُسب كلا القولين إلى ابن عباس. قال القرطبي: «سورة الإخلاص مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عباس وقتادة والضحاك والسدي.».[6] ومنشأ الاختلاف في سبب نزولها هل هو سؤال قريشٍ للنبي عن الله أم سؤال اليهود للنبي. والأصح أنها مكية، وهي السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم.[1]
أسباب النزول
ذُكر أن المشركين من قريش سألوا النبي عن «نسب الله»، فنزلت هذه السورة جوابًا لهم. وقيل: بل نزلت من أجل أن اليهود جاءوا إلى النبي وسألوه، فقالوا له: هذا الله خَلَقَ الخَلْق، فمن خلَق الله؟ فأُنزلت جوابًا لهم. وكلا القولين وردا في الحديث المروي عن النبي، فجاء في سؤال قريش للنبي ما رواه الترمذي عن أبي بن كعب، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود،[1]وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله: «أن قريشًا قالوا للنبي ﷺ: «انسب لنا ربك» فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها».[7] وروى الضحاك أن المشركين أرسلوا إلى رسول اللهعامر بن الطفيل فقال له عنهم: شققت عصانا (فرّقت كلمتنا)، وسببت آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرا أغنيناك، وإن كنت مجنونًا داويناك، وإن كنت قد هويت امرأة زوجناكها فقال رسول الله: لست بفقير ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول الله، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته، فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له: بيّن لنا جنس معبودك، أم من ذهب أم من فضة؟ فأنزل الله هذه السورة.[1]
وعن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد الله الصمد) قال: فالصمد الذي (لم يلد ولم يولد)؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله تعالى لا يموت ولا يورث، (ولم يكن له كفوا أحد) قال: لم يكن له شبيه ولا عدل و(ليس كمثله شيء).[7] قال الطبري: «ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربِّ العزَّة، فأنزل الله تعالى هذه السورة جوابًا لهم. وقال بعضهم: بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه، فقالوا له: هذا الله خلَقَ الخلْقَ، فمن خلَق الله؟ فأُنزلت جوابًا لهم».[8]
جاء في سؤال اليهود للنبي ما رواه أبو صالح عن ابن عباس: «أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة (أخا لبيد) أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا؟ قال: إلى الله، قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟.[7] قال البغوي: قال الضحاكوقتادةومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا: صف لنا ربك يا محمد لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ فأنزل الله هذه السورة.[9] وقال الواحدي: إن أحبار اليهود (منهم حيي بن أخطبوكعب بن الأشرف) قالوا للنبي ﷺ: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فنزلت».والصحيح أنها مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة، ولعل تأويل من قال: إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد، أو حينما سأل أحبار اليهود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم هذه السورة، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط.[7]
وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها في مكة والمدينة مثل السيوطي في «الإتقان».[10] بينما أورد فخر الدين الرازي قولًا أنها نزلت بسبب سؤال النصارى، فقد روى عطاء عن ابن عباس، قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة؟ فقال: إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء فنزلت: (قل هو الله أحد) قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، قالوا: زدنا من الصفة، فقال: (الله الصمد) فقالوا: وما الصمد؟ فقال: الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج، فقالوا: زدنا فنزل: (لم يلد) كما ولدت مريم: (ولم يولد) كما ولد عيسى: (ولم يكن له كفوا أحد) يريد نظيرا من خلقه.[11]
التسمية
يُطلق العلماء على سور القرآن أسماء مختلفة،[12] وهذه السورة من بين السور التي حصلت على العديد من الأسماء المختلفة. وأشهر أسمائها "الإخلاص" وهو اسم السورة في المصحف العثماني. ومن الأسماء التي أطلقها العلماء على السورة:[11][13]
سورة قل هو الله أحد: المشهور في تسميتها في عهد النبي وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما رُوي عن الصحابة تسميتها «سورة قل هو الله أحد». روى الترمذي عن أبي هريرة، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة: «أن رسول الله ﷺ قال: «قل هو الله تعدل ثلث القرآن».
سورة الإخلاص: سميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي «جامع الترمذي»: «سورة الإخلاص» واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الألوهية. قال ابن عثيمين في تفسيره للسورة: «سميت سورة الإخلاص لأنها تضمن الإخلاص لله عز وجل، وأن من آمن بها، فهو مخلص، فتكون بمعنى مخلصة لقارئها، أي أن الإنسان إذا قرأها مؤمنا بها، فقد أخلص لله عز وجل. أو لأنها مخلََصة بفتح اللام، لأن الله تعالى أخلصها لنفسه، فلم يذكر فيها شيئا من الأحكام، ولا شيئا من الأخبار عن غيره، بل هي أخبار خاصة. والوجهان صحيحان، ولا منافاة بينهما»، وقال الفخر الرازي إن من أسماء هذه السورة سورة الإخلاص، قال: «ولأن من اعتقده كان مخلصا في دين الله، ولأن من مات عليه كان خلاصه من النار».[14]
سورة التوحيد: سميت في بعض المصاحف التونسية بـ«سورة التوحيد» لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد.
سورة الأساس؛ سماها السيوطي في الإتقان بـ«سورة الأساس» لاشتمالها على توحيد الله،[15] وفي الكشاف: روى أبيوأنسحديثًا مرفوعًا: «أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» وهذا الحديث ضعيف.[13]
وردت العديد من الأحاديث النبوية في فضل سورة الإخلاص، واشتهر في الأحاديث أن قراءة هذه السورة تعدل قراءة ثلث القرآن، وأن بها صفة الرحمن، كما كانت قراءة سورة الإخلاص من أذكار النبي الدائمة، فكان يقرأها إذا آوى إلى فراشه، ويقرأها في صلاة الوتر، ويقرأها دبر كل صلاة مكتوبة. وقد أمر النيي بقراءتها مع المعوذتين دبر كل صلاة، كما حث النبي على قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثًا في الصباح والمساء وأن قراءتهم تكفي المرء من كل شيء.[18] وقد استحب العلماء قراءة الإخلاص والفلق والناس بعد صلاتي الفجروالمغرب ثلاث مرات، فهما صلاتان الصباح والمساء، وأما بعد باقي الصلوات فمرة واحدة دبر كل صلاة. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: «ورد قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين دبر كل صلاة، لما رواه أبو داود في سننه عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله ﷺ أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة»، وفي رواية الترمذي: «بالمعوذتين» بدل المعوذات. فينبغي أن يقرأ: «قل هو الله أحد»، و«قل أعوذ برب الفلق»، و«قل أعوذ برب الناس» دبر كل صلاة، وأن تكرر عقب صلاة الفجر والمغرب ثلاث مرات، يقرأها كل إنسان وحده بقدر ما يسمع نفسه.».[19] وقيل بأن تكرارها ثلاث مرات فهو في الصباح والمساء، فأمَّا دُبر صلاتي الفجروالمغرب فواحدة مثل سائرالصلوات.[20]
فمن الأحاديث التي جاءت بأن قراءتها تعدل ثلث القرآن:[21]
وقد ذكر العلماء أن سورة الإخلاص لها هذا الفضل لأنها تضمنت صفة الله، وبيان صفة الله هي ثلث القرآن، لأن القرآن أُنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منها للأحكام، وثلث منها للوعد والوعيد، وثلث منها للأسماء والصفات.[22] قال ابن تيمية:[23]
والثواب أجناس مختلفة كما أن الأموال أجناس مختلفة من مطعوم ومشروب وملبوس ومسكون ونقد وغير ذلك، وإذا ملك الرجل من أحد أجناس المال ما يعدل ألف دينار مثلا لم يلزم من ذلك أن يستغنيَ عن سائر أجناس المال، بل إذا كان عنده مال وهو طعام فهو محتاج إلى لباس ومسكن وغير ذلك، وكذلك إن كان من جنس غير النقد فهو محتاج إلى غيره، وإن لم يكن معه إلا النقد فهو محتاج إلى جميع الأنواع التي يحتاج إلى أنواعها ومنافعها... فإذا قرأ الإنسان قل هو الله أحد: حصل له ثوابٌ بقدر ثواب ثلث القرآن لكن لا يجب أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل ببقية القرآن، بل قد يحتاج إلى جنس الثواب الحاصل بالأمر والنهي والقصص، فلا تسد قل هو الله أحد مسد ذلك ولا تقوم مقامه... فالمعارف التي تحصل بقراءة سائر القرآن لا تحصل بمجرد قراءة هذه السورة فيكون من قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأها ثلاث مرات من هذه الجهة لتنوع الثواب، وإن كان قارئ قل هو الله أحد ثلاثاً يحصل له ثواب بقدر ذلك الثواب لكنه جنس واحد ليس فيه الأنواع التي يحتاج إليها العبد كمن معه ثلاثة آلاف دينار وآخر معه طعام ولباس ومساكن ونقد يعدل ثلاثة آلاف دينار فإن هذا معه ما ينتفع به في جميع أموره وذاك محتاج إلى ما مع هذا، وإن كان ما معه يعدل ما مع هذا، وكذلك لو كان معه طعام من أشرف الطعام يساوي ثلاثة آلاف دينار فإنه محتاج إلى لباس ومساكن وما يدفع به الضرر من السلاح والأدوية وغير ذلك مما لا يحصل بمجرد الطعام.
وكذلك جاء في الأحاديث أنها من أذكار النبي اليومية:[21]
أنها سبب لقبول الدعاء: «عن بريدة: أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسالك أني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال: "لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب"».[25]
أن الله يحب مُحِبها، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ رَجُلا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ لا يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ ـ تَعْنِي يَخْتِمُ ـ إِلاَّ بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّهُ.[27]
أنها من قرأها عشر مرات بني له قصر في الجنة، روى أحمدوالطبراني عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي قال: «من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة».[28]
مناسبتها لما قبلها
ذكر السيوطيوالفخر الرازي اتصال سورة الإخلاص في المعنى مع سورة الكافرون، كون السورتان اشتملتا على التوحيد، لذا كان النبي يقرأهما معًا في صلاة الفجر، وسنة الطواف، وسنة الضحى، وسنة المغرب، وصبح المسافر، ومغرب ليلة الجمعة. ففي سورة الكافرون نفى الله عبادة ما يعبدون، وفي سورة الإخلاص صرح الله بأنه هو المعبود الأحد، وأقام الدليل عليه بأنه صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، وليس في معبوداتهم ما هو كذلك.[29] كذلك اشتركت السورتان في بعض الأسامي مثل المقشقشتان والمبرئتان، من حيث إن كل واحدة منهما تفيد براءة القلب عما سوى الله تعالى، يقول الفخر الرازي: «(قل ياأيها الكافرون) يفيد بلفظه البراءة عما سوى الله وملازمة الاشتغال بالله و(قل هو الله أحد) يفيد بلفظه الاشتغال بالله وملازمة الإعراض عن غير الله أو من حيث إن: (قل ياأيها الكافرون) تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى الله، و(قل هو الله أحد) تفيد براءة المعبود عن كل ما لا يليق به.».[11]
تفسير السورة
تفسير الآية الأولى
﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١﴾ أي قل يا محمد لمن سألك عن صفة ربك أن ربك هو الله الواحد الأحد، الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. الواحد المنزه عن التركيب والتعدّد.[30] قال محمد الطاهر بن عاشور: «والمعنى أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات. وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك، وللتثليث الذي أحدثه النصارى الملكانية وللثانوية عند المجوس، وللعدد الذي لا يحصى عند البراهمة.»[31]
والأحد هو الذي لا ثاني له المنفرد بالربوبية والألوهية والوحدانية في ذاته وصفاته، وقد عده العلماء من أسماء الله الحسنى، قال أبو إسحاق الزجاج:[32] «هو المنفرد بوحدانيته في ذاته وصفاته، وقد فرق بعضهم بين الواحد والأحد: أن الواحد يفيد وحدة الذات فقط والأحد يفيده بالذات والمعاني»، وجاء في لسان العرب:[33] «الواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد بني على الانفراد، فالواحد منفرد بالذات، والأحد بالمعنى، والأحد من صفات الله عز وجل التي استخلصها لنفسه، ولا يشركه فيها شيء». وقال الخطابي:[32] «هو سبحانه الواحد الذي ليس كمثله شيء، وكل شيء سواه يدعى واحد من جهة غير واحد من جهات»، وقال السعدي:[34] «فالله سبحانه هو الذي توحد بجميع الكمالات بحيث لا يشاركه فيها مشارك ويجب على العبيد توحيده عقدًا وقولًا وعملًا بأن يعترفوا بكماله المطلق وتفرده بالوحدانية ويفردوه بأنواع العبادة»، وقال سعيد القحطاني في كتابه شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة يقول:«فهو (الله) الأَحَدُ في حياته وقيّومّيته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات».[34]
تفسير الآية الثانية
﴿ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ ٢﴾الصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج المستغني بذاته، وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته، المستغني عن كل أحد. الفرد الماجد الذي لا يُقضى في أمرٍ دُونَه. وقيل: الصمد: الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، وقيل: الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وتكرار اسم «الله»؛ للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية. وقال السدي: الصمد هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب. وقال الحسين بن الفضل البجلي: الصمد هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.[35]
وتعرية الجملة عن العاطف؛ تقتضي أن لا يكون في الوجود صمدٌ سوى الله، وإذا كان الصمد مفسرًا بالمصمود إليه في الحوائج، لزم أن لا يكون في الوجود موجود هكذا سوى الله تعالى،[35] وصفات الله في السورة تناسب بعضها البعض؛ فـ«الله» تشير إلى الألوهية المستتبعة لكافة نعوت الكمال، ثم «الأحد» تفيد أحديته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد، ثم «الصمد» تفيد صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتي عما سواه وافتقار جميع المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها.[36]
قال ابن كثير:[37] «عن ابن عباس: هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.» وقال القرطبي:[38] «الله الصمد أي الذي يصمد إليه في الحاجات.» وقال ابن القيم أيضًا في نونيته:[39]
﴿لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ٣﴾ جملة: لَمْ يَلِدْ خبر ثانٍ عن اسم الجلالة من قوله: الله الصمد، أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة الله الصمد، لأن من يُصمَد إليه لا يكون من حاله أن يلد، قال ابن عاشور: "فبعد أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله، لأن المتولد مساوٍ لما تولد عنه.. ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية". وعن أبي بن كعب: "هو الذي {لَمْ يَلِدْ} لأن من يلد سيموت، ومن يرث يورث عنه"، وهو تفسير لمعنى الصمد. فهو رد على من قال الملائكة بنات الله، أو عزير أو المسيح أو غيره.[40]
وجملة وَلَمْ يُولَدْ عطف على جملة لَمْ يَلِدْ، أي ولم يلده غيره، فأردف نفي الولد بنفي الوالد. وقدَّم نفي الولد لأنه أهم؛ إذ نسب أهل بعض الملل الولد إلى الله لكنهم لم ينسبوا إليه والدًا. قال فخر الدين الرازي: إنما وقعت البداءة بأنه لم يلد؛ لأنهم ادعوا أن له ولدا، وذلك لأن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ولم يدع أحد أن له والدًا فلهذا السبب بدأ بالأهم فقال: (لَمْ يَلِدْ) ثم أشار إلى الحجة فقال: (وَلَمْ يُولَدْ) كأنه قيل: الدليل على امتناع الولدية اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره.[41] قال ابن عاشور: وفيه الإيماء إلى أن من يكون مولودًا مثل عيسى لا يكون إلهًا لأنه لو كان الإله مولودًا لكان وجوده مسبوقًا بعدم لا محالة، وذلك محال لأنه لو كان مسبوقا بعدم لكان مفتقرا إلى من يخصصه بالوجود بعد العدم، فحصل من مجموع جملة: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.[42] قال الخطيب الشربيني: {وَلَمْ يُولَدْ} لأنه لو تولد عنه غيره تولد هو عن غيره كما هو المعهود والمعقول، فهو قديم لا أول له، وهو الأول الذي لم يسبقه عدم؛ لأن الولادة تتكون ولا تتشخص إلا بواسطة المادة وعلاقتها وكل ما كان ماديًا أو كان له علاقة بالمادة كان متولدا عن غيره، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك.[40]
وقد جاء نفي التولد بصيغة الماضي، كونه تكذيبًا لما قد نُسب له، قال الشوكاني في فتح القدير: وإنما عبر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ في الماضي، ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في المستقبل؛ لأنه ورد جواباً عن قولهم: ولد الله كما حكى الله عنهم بقوله: أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد حصول الولد فيما مضى وردت الآية لدفع قولهم هذا.[43]
تفسير الآية الرابعة
﴿وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ ٤﴾ «قَالُوا: كُفُؤًا وَكُفُوًا وَكَفَاءً، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمِثْلُ، وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكُلُّهَا تَدُورُ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ».[44] فلم يكافئه أحد، ولم يماثله ولم يشاكله من صاحبة وغيرها.[36] فختم الله السورة بأن شيئًا من الموجودات يمتنع أن يكون مساويًا له في شيء من صفات الجلال والعظمة والعلم والقدرة والرحمة والجود والعدل والفضل والإحسان وجميع صفاته. قال مجاهد: لم يكن له صاحبة كأنه سبحانه وتعالى، لم يكن أحد كفؤا له فيصاهره، ردًا على من حكى الله عنه قوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ۚ) [الصافات: 158] فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى: (لم يلد).[45]
خبرٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه الضّمة. والجملة مستأنفة لا محل لها.[48]
﴿لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ٣﴾
لَمْ
حرفُ نفي وجزم وقلب مبني على السّكون.
يَلِدْ
فعلٌ مُضارعٌ مجزوم وعلامة جزمه السّكون، والفاعل: ضميرٌ مُستترٌ تقديره هو. والجملة مستأنفة لا محل لها.[48]
وَلَمْ
الواو: حرفُ عطفٍ مبنيٌّ على الفتح. لم: حرفُ نفي وجزم وقلب مبني على السّكون.
يُولَدْ
فعلٌ مُضارعٌ مجزوم وعلامة جزمه السّكون، ونائب الفاعل: ضميرٌ مُستترٌ تقديره هو. وجملة "لَمْ يُوْلَدْ" لا محلَّ لها لأنها معطوفة على الجملة التي قبلها.[48]
﴿وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ ٤﴾
وَلَمْ
الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. لم: حرفُ نفي وجزم وقلب مبني على السّكون.